Sunday, January 22, 2017

نحو فهم أفضل لقصة العبد الصالح مع الغلام

منذ صغرنا و نحن نتلقى قصة موسى مع العبد الصالح –أو الخضر كما سمته كتب التراث من أحاديث و تفاسير– بشكلها الموروث و اخذناها على أنها مسلمات قرآنية لا يجب التشكيك فيها. و لست هنا معني بكل حيثيات هذه القصة, و إنما قضية قتل العبد الصالح للغلام. و الحقيقة انها قضية فيها إشكالات خطيرة جدا. و قد كان لكاتب هذه السطور صراع عميق مع دلالات الفهم التقليدي لهذه الآيات التي أثارت شكوك عريضة في أساسيات و أركان أخلاقية مثل العدالة و براءة النفس الإنسانية حتى تقترف ذنبا يستوجب العقوبة.
و لكن سيتضح فيما يلي خطأ الفهم التقليدي للآيات بعد العود لمصطلحات القرآن و بعد تفسير القرآن بالقرأن لا بكتب التفاسير. و الحقيقة أن هذه القضية أثيرت بشكل خطير مع أحد أصدقائي مما دفعني بالإستعجال في توضيحها في مدونتي لكل من لديه شبه و شكوك و تساؤلات مبررة. فيما يلي أضع بين يدي القاريء فهما أرى و أنا مطمئن أنه أقرب للصواب بما اجتهدت فيه من تفكر و تدبر. لا أعلم هل أنا السباق فيه أم لا, و لكن لا يهمني السبق بقدر ما يهمني إزاحة الفهم الخطير للآيات.
لن أعود للآيات كلها و فيما يلي سأورد الآيات التي تهمنا من سورة الكهف و قد و ضعت اربع خطوط لأربع كلمات ستفيدنا في توضيح الآيات:
الفعل:”فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا
التعليل: “وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا
” وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ۚ ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا
و نعود لأشهر تفسيرين, تفسير إبن كثير:
الفعل: “فإذا غلمان يلعبون خلفها ، فيهم غلام ليس في الغلمان غلام أظرف منه ولا أثرى ولا أوضأ منه ، فأخذه بيده ، وأخذ حجرا فضرب به رأسه حتى دمغه فقتله ، قال : فرأى موسى أمرا فظيعا لا صبر عليه ، صبي صغير قتله لا ذنب له قال : ( أقتلت نفسا زكية ) أي صغيرة!”. نلاحظ هنا عدم تفريق ابن الكثير بين مصطلحي صبي و غلام. كما ان تفسير ابن الكثير لكلمة زكي هو صغير!!
التعليل: قد تقدم أن هذا الغلام كان اسمه جيسور . وفي الحديث عن ابن عباس ، عن أبي بن كعب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا ” . رواه ابن جرير من حديث ابن إسحاق ، عن سعيد ، عن ابن عباس ، به ؛ ولهذا قال : ( فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا ) أي : يحملهما حبه على متابعته على الكفر . قال قتادة : قد فرح به أبواه حين ولد ، وحزنا عليه حين قتل ، ولو بقي كان فيه هلاكهما ، فليرض امرؤ بقضاء الله ، فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحب .وصح في الحديث : ” لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له ” نلاحظ هنا التبرير يعود للفهم الجبري بأن كل إنسان فينا يولد كافر أو مؤمن و هو مبدأ روجه الأمويين و العباسيين لتبرير إستبدادهم. و نلاحظ ايضا إغلاق الموضوع بالقبول بالقضاء و القدر.
تفسير الطبري:
الفعل:”ثُمَّ خَرَجا فانْطَلَقا يَمْشِيانِ، فَأبْصَرَا غُلاما يَلْعَبُ مَعَ الغِلْمَانِ، فَأخَذَ برأْسه فَقَتَلَهُ، فَقالَ لَهُ مُوسَى : أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّهً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شيئًا نُكْرًا  قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا.
التعليل: حدثنا عمرو بن عليّ، قال: ثنا أبو قتيبة، قال: ثنا عبد الجبار بن عباس الهمداني، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن أُبيّ بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” الغُلامُ الَّذِي قَتَلَهُ الخَضِرُ طُبِعَ يَوْم طُبِعَ كافِرًا “. والخشية والخوف توجههما  العرب إلى معنى الظنّ، وتوجه هذه الحروف إلى معنى العلم بالشيء الذي يُدرك من غير جهة الحسّ والعيان. وقد بيَّنا ذلك بشواهده في غير هذا الموضع، بما أغنى عن إعادته. نلاحظ هنا تكرار التبرير بالجبرية.
و هذان التفسيران ينسجمان مع ما عم فهمه للآيات عند الناس: طفل غير عاقل أو مكلف, و زيادة عليه فهو بريء لم يرتكب جرما و طغيانا.
فيما يلي سيتضح لنا ان الغلام لم يكن طفلا أو صبيا قاصرا عقليا أو حتى جسديا. كما سيتضح لنا أن الغلام لم يكن بريئا أصلا, بل عوقب بسبب أفعال لا رجعة فيها و لا توبة تنجي منها. و لنصل لكل ذلك يجب أن نستوضح ثلاث مصطلحات قرآنية: غلام, إرهاق, طغيان, و من ثم كفر.
المراحل العمرية في القرآن:
المرحلة الأولى (الطفولة): و هي مرحلة تبدأ منذ الولادة إلى الحلم. أي من اليوم الأول حتى سن الثالثة عشر أو الرابعة عشر عند الذكور. ” نُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً
 و حد الطفولة هو البلوغ, حينها يجب أن لا يدخلوا البيوت إلا بإستذان: “وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ” حيث حينما يصل الأطفال سن الحلم يصبحون غلمان. و الغلمان لا تبدي لهن النساء زينتهن بل تبديها للإطفال الذين لا يستأذنون لأنهم لم يبلغوا بعد و لا يشتهون النساء, “……. أَخَوَاتِهِنَ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَىٰ عَوْرَاتِ النِّسَاءِ ۖ” إذن الطفولة هي مرحلة تبدأ منذ  الولادة و تنتهي بالحلم, و هي مرحلة يستطيع فيها الاطفال الغرباء رؤية النساء بزينتهن التي لا يراها سوى الزوج و المحرمين عليهن.
و الصبي في القرآن هو الطفل الذكر بالضرورة و قد وردت كلمة صبي مرتين في القرآن: “فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ۖ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا”. “يا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا” و المقصود هنا الزعامة و السيادة بمعنى وراثة زعامة آل عمران بعد وفاة زكريا و هو صبي صغير. أي طفل قبل بلوغه الثالثة عشر أو الأربعة عشر و قد وصف الله في القرآن يحيى بأنه كان سيدا.  و من الجدير بالذكر أن هناك حالات كثيرة عبر التاريخ يتم توريث المناصب القيادية و القبلية لإطفال أو صبيان.
إذن الطفل أو الأطفال هو لفظ يصف الأطفال بجنسيهم الذكور و الإناث.
و هنا ناتي للمرحلة الثالثة و هي الغلمنة: و هي مرحلة تبدأ من البلوغ الجنسي أي من الرابعة عشر إلى سن الفتوة أي سن الثامنة عشرة حين يكتمل النمو الجسدي تماما عند الذكور. و في المعاجم  العربية غَلُم فلان أي إشتدت شهوته الجنسية. و الغُلْمَة هي شدة الشهوة للجماع. فلا يعقل أن نصف من هو في ريعان شهوته الجنسية بالطفل! بل هذا وصف لمرحلة المراهقة و هذه المرحلة تتسم بتكون أساس عقلي يستطيع الغلام فيها تحديد الخطأ من الصواب “فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ۖ قَالُوا لَا تَخَفْ ۖ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ” حيث يقرن الله هنا الغلام بالعلم, و هكذا يتجاوز لهو الطفولة و قصورها العقلي  و يصبح الغلام مكلفا و يعامل معاملة البالغ في التكليف. إذن يبدوأن الغلمنة أعلى سنا من مرحلة الطفولة بمعنى أنها مرحلة المراهقة التي تسبق مرحلة النضوج الجسدي الكامل أو مرحلة الفتوة.  و نرى أن يوسف حينما تم إلقاءه في الجب من قبل أخوته كان غلاما عاقلا يتفكر و يتلقى إحدى علامات النبوة و هي الرؤيا التي تنبيء بأحداث مستقبلية: ” إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا ۖ إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ“.
و جميعنا يعلم مسير الأحداث التى أدت لرمي أخوة يوسف له في الجب و العثور عليه من قبل القافلة السيارة: ” وَارِدَهُمْ فَأَدْلَىٰ دَلْوَهُ ۖ قَالَ يَا بُشْرَىٰ هَٰذَا غُلَامٌ ۚ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ  وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ۚ وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ
و الغلام مع أنه بلغ جنسيا و أصبح قادرا على التمييز بين الحق و الباطل و بالتالي أصبح مكلفا, إلا أنه لم يبلغ مرحلة الرشد و بالتالي نستطيع أن نصف الغلام باليتيم إلا اذا بلغ الرشد أي التوازن في الرأي و التصرف, أي كمراهق اليوم إبن الرابعة عشرة, مسؤول عن أعماله.  و اليوم في الولايات المتحدة الأمريكية تتخذ المحاكم فيها قرارات بتحويل محاكمة مراهق إذا بلغ من العمر الرابعة عشر– أي طفل قانونا– إلى محاكمة لبالغ إذا طلب الإدعاء ذلك و ذلك حسب فظاعة الجريمة.
 لكن يجب أن نذكر أن الغلام تابع, لم يبلغ مرحلة الإستقلال بنفسه مع أنه يتحمل مسؤولية أفعاله و لذلك نكاد نجد دائما أن الغلام يتبع طرف ما يوفر له نوع من أنواع الرعاية. و لذلك أيضا يصف القرآن غلامين بأنهما يتامى في سورة الكهف: ” وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ“. ذلك أن اليتيم يجب أن يبلغ سن الزواج و أن يصل للرشد في الرأي بحيث يكون قادرا على الإستقلال بنفسه تماما لكي يُعطى ماله الموروث عن أهله ” وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ۖ “. اذن فوصف اليتيم للغلام لا يعني أنه طفل, لإن الطفل إذا بلغ االنكاح يصبح بالغا  جنسيا أي غلام لا طفل.
و نتابع مع يوسف حيث مكن الله يوسف في الأرض حيث يبدو أن العزيز وكله مسؤوليات ما في أملاكه و هو غلام. “وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ۚ وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ
و في الآية القادمة يتضح لنا إنتقال يوسف من مرحلة الغلمنة إلى مرحلة الفتوة فيصبح فتى, أي شاب مكتمل النمو الجسدي: “وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ” و في هذه المرحلة أنجذبت له إمرأة العزيز: “وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ ۖ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا ۖ إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ” و هنا نرى وصول يوسف للفتوة بعد أن كان غلاما أو مراهقا بين الرابعة عشر حتى السادسة عشر ليتجاوز ذلك عمريا و يكتمل نموه الجسدي.
أريد ان أبين ان بلوغ الأشد لا يعني بلوغ الأربعين حين تقرأ الأية التالية: ” وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ۖ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ۖ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ۚ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ” فالآية تنص على التتابع, حيث أن بلوغ الأشد يتلوه بلوغ الأربعين و لا يوازيه.
مما سبق يتضح لنا التسلسل العمري لدى الذكور في القرآن و نستطيع ان نميز أن سن الطفولة ينتهي بالحلم فيتحول الغلام لمراهق بالغ جنسيا و له القدرة العقلية على التمييز بين الصواب و الخطأ.  و في النهاية يكتمل النمو الجسدي بمرحلة الفتوة حين يصبح الغلام فتى يافع ذو لياقة بدنية عالية.
و التاريخ مليء بشخصيات إستلمت مناصب قيادية في سنوات المراهقة مثل توت عنخ آمون و محمد بن قاسم القائد العسكري في الفترة الاموية الذي قاد اول جيش و عمره 17 سنة.
إذن نخلص على أن الغلام لم يكن طفلا بل كان عمره ما بين الثالثة عشر كحد أدنى أو يبلغ السابعة عشر كحد أقصى. و هي مرحلة ما بعد الطفولة و ما قبل الفتوة.
نأتي الآن لإثبات الن الغلام المذكور في قصة الكهف لم يكن بريئا بل كان طاغية, أي أنه تمادى في ظلمه و إجرامه. فالقرآن يصف اطغيان بأنه أقصى ما يصل إليه الظالم من إرتكاب للمحرمات فيتجاوز مرحلة الخلاص و يختم عليه بالخلود في جهنم.
كما أن الغلام كافر, أي عرف الحق و جحد به قولا و فعلا. و أنا شخصيا أعرف الكافر بأنه الشخص الذي يعلم الحق و مع ذلك يحاربه بلسانه و يده محاولا حجبه و تغطيته. و الجذر كَفَر له أصل في اللغة الأكادية القديمة—الأكادية لها جذور مشتركة مع العربية و لا مانع من الإستهانة باللسانيات من تأصيل المصطلحات المشتركة لفهم افضل, لكن هذا مبحث قد أسعى لتوضيحه في المستقبل القريب—حيث يعني الأرض المستصلحة زراعيا و التي غطاها الزرع. و من هنا أتت تسميات القرى في بلاد الشام و مصر بكَفْر مثل كفر الشيخ و كفر سوم و كفر المعزة. و قد تكون كلمة cover  الإنجليزية اشتقت من هذا الأصل.
و نستدل على طغيان هذا الغلام و ظلمه بالتالي: “وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا” حيث يصف العبد الصالح أن هذا الغلام سيصل بطغيانه و كفره لمرحلة زائدة جدا ستصل لأن يجزع أهله و يشقى والديه و يصلا مرحلة الإرهاق. بمعنى أن الطغيان حاصل, لكنه لم يتجاوز بعد أقصى درجات تحمل والديه.  و الخشية في القرآن لا تعني الخوف, بل تعني الحساب المسبق للأمور أو الشخوص وإعطاءها قدرها و العمل لتجنب التوابع السلبية للأحداث و نتائجها على النفس.
و الطغيان فعل والكفر فكر, و الفكر لا يستوجب العقوبة الدنيوية لان الإسلام كفل حرية البشر الفكرية و الإيمانية لكن اذا إقترن الكفر بفعل إجرامي يهدف لحجب الحقيقة فيتحول لطغيان قد يستوجب العقاب في الدنيا قبل الآخرة، “وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِم وَمَا يَتَضَرَّعُون“. و من يقترف أفعال الطغيان فلا رجعة عنها، “وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ“. فالطغيان دائما نجده في القرآن ينطبق على ظلمة مجرمين مضللين و مجرمين قتلة مصيرهم نهائي, ” وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَىٰ فَأَمَّا مَن طَغَىٰ وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىٰ“. و لا يزال العرب ليومنا هذا يطلقون اسم الطاغية على الحاكم المجرم الذي يستعبد شعبه و يقتل من يعارضه.  فستالين طاغية و هتلر طاغية كما كان فرعون قبلهم.
أذن الطفل و الغلام و الفتى هي أسماء لمراحل عمرية متعاقبة في القرآن.
الطفل: من الولادة للبلوغ الجنسي اي صفر حتى ١٣ تقريبا و الصبي هو الطفل الذكر.
الغلام: مرحلة الزيادة في الرغبة الجنسية و هي ما يعرف لدينا الآن بالمراهقة و هي من ١٣ أو ١٤ حتى السابعة عشرة. و هنا تبدأ مرحلة التكليف. أي يصبح فيها الشخص قادرا على التمييز بين الصالح و الطالح من الاعمال.
الفتى: اكتمال النمو و مرحلة الشباب و القوة و النشاط الجسدي و اظن انها من السابعة عشر أو الثامنة عشر حتى أواخر العشرينات. و يتبعها الكهولة ثم الشيخوخة.
و كملخص, فإن الغلام الذي قتله العبد الصالح هو شخص بالغ جنسيا و مكلف عقليا يعلم الصواب من الخطأ و أختار أن ينجرف في أعمال الكفر و الطغيان التي لا ينفع  بعدها توبة حتى أشقى أهله  و قارب على إرهاقهم. و هكذا وجبت عليه عقوبة دنيوية من شخص له سلطة ربانية و أوتي من العلم بأفعاله مما لم يؤتى لنبي رسول كموسى.
أما ما فهمناه من التفاسير بأنه صبي كما وصفه إبن كثير, أي طفل بريء غير مكلف و أن قتله على إعتبار ما سيكون, أي ما سيقترف حين يكبر تبعا لمبدأ الجبرية بأن القدر هو صنع الله بخيره و شره و أن الإنسان مُسيّر و مصيره محسوم منذ ولادته فذلك ينافي لفظ و معنى القرآن و يتضارب مع روح الرسالة.
لقد كان للتفسير التقليدي لقصة العبد الصالح و الغلام تأثير بالغ السلبية علي حتى راجعت الآيات بمنظور مستقل عن التفاسير و الروايات لإستطيع أن أفهمها بما ينسجم مع اللفظ و المصطلح القرآني. و أدعو الجميع أن يعيد التفكر في الآيات و التدبر فيها. و لا أهدف من هذا الجهد إدعاء فهم جديد بل محاولة للوصول لفهم أكثر صوابا بمنهجية تتخذ من القرآن نفسه مرجعية لتفسيره.
الحكمة و الله اعلم أننا مهما بلغنا من العلم فسنظل محتاجين للبحث و السعي و الصبر أكثر.
الله اوحى لموسى أن يذهب لعبد سماه الله بالصالح و هذه تزكية من الله لهذا الرجل. و مع ذلك اظهر موسى استهجانه لأعمال هذا الرجل مع ان الله زكاه.  هذا نبي رسول و حصل معه هذا. إذن فليكن الصبر على البحث و طلب الحقيقة هو شعارنا كبشر.
العمل من اجل العلم، و البحث عن ما يشكل علينا و الصبر على كل ذلك هي الحكم المقصودة من الآيات و قصة العبد الصالح.  و الله اعلم.
من مدونة فادي السويطي

No comments:

Post a Comment