Monday, August 29, 2016

مقدمة كتاب كيف نتعامل مع القرآن للغزالي


قد تكون مشكلة المسلمين اليوم كلها في منهج الفهم الموصل الى التدبر وكسر الأقفال من على القلوب والعقول وتجديد الاستجابة وتجديد وسيلتها ليكونوا في مستوى القرآن ومستوى العصر ويحققوا الشهود الحضاري ويتخلصوا من الحال التي استنكرها القرآن ( أفلا يتدبرون القرآن ام على قلوب أقفالها) إن الأزمه التي لا نزال نعاني منها ليست بافتقاد المنهج فالمنهج (اصل المعرفه) موجود ومعصوم ومختبر تاريخيا.لكن المشكلة بافتقاد وسائل الفهم الصحيحة وأدوات التوصيل وكيفية التعامل مع القرآن فهنا علينا ان نقرر : بأن الازمه هي ازمة فهم وأزمة تعامل وأزمة أمية عقلية صرنا إليها بذهاب العلم (مناهج الفهم) و (وسائل المعرفة) . لذا يجب أن تنصب الجهود على منهج الفهم وإعادة فحص واختبار المناهج القائمة التي أورثتنا ما نحن عليه والتحرر من تقديس الأبنية الفكرية الاجتهادية السابقة التي انحدرت الينا من موروثات الآباء والأجداد والمناخ الثقافي الذي يحيط بنا منذ الطفولة ويتسرب إلى عقولنا فيشكلها بطريقة التفاعل الاجتماعي الأمر الذي أدى الى انكماش الفكر والرؤية القرآنيه في واقع حياتنا وتحول القرآن من مراكز الحضارة وصناعة الحياة إلى الركود والتحنط في بطون التاريخ التي تشكلت في عصور التخلف والتقليد والتي حالت دون إدراك أبعاد النص القرآني والقدرة على تعديته للزمان والمكان وذلك أن الصورة التي طبعت في أذهاننا في مراحل الطفولة للقرآن انه لا يستدعي للحضور الا في حالات الاحتضار والنزع والوفاة او عند زيارة المقابر…وهي قراءات لا تتجاوز الشفاه .. وهنا المقصود ليس التقليل من اهمية ضبط الشكل وحسن الاخراج وسلامة المشافهة ولكن الدعوة هنا الى إعادة النظر بالطريقة حتى نصل الى مرحلة التأمل والتفكر والتدبر التي تترافق مع القراءه وقد يكون ذلك بأن نبدأ التلقين بالأداء الحسن ابتداء ،مع التوجيه اللافت للنظر صوب المعنى ولا نلتفت الى ضبط الشكل الا في حالات التصويب ولتكن حالات الاستثناء . وقد يكون من اخطر الاصابات التي لحقت بالعقل المسلم فحالت بينه وبين التدبر والتحقق والتفكر هو التوهم بأن الأبنية الفكرية السابقة التي استمدت من القرآن في العصور الأولى هي نهاية المطاف وأن إدراك أبعاد النص مرتهن بها في كل زمان ومكان وما رافق ذلك من النهي عن القول في القرآن بالرأيوجعل الرأي دائما قرين الهوى وسوء النية وفساد القصد . هذا علاوة على ان الاقتصار على هذا المنهج في النقل والتلقي يحاصر الخطاب القرآني نفسه ويقضي على امتداده وخلوده وقدرته على العطاء المتجدد للزمن وإلغاء لبعده المكاني : ” وما أرسلناك الا كافة للناس بشيرا ونذيرا
إن الدعوة إلى محاصرة العقل والحجر عليه وقصر الفهم والإدراك والتدبر على فهوم السابقين هو الذي ساهم بقدر كبير في الانصراف عن تدبر القرآن وأقام الحواجز النفسية المخيفة التي حالت دون النظر وابقى الاقفال على القلوب وصار القرآن تناغيم وترانيم . وبدل ان يكون الميراث الثقافي وسيلة تسهل الفهم وتغني الرؤية وتعين التدبر أصبح - من بعض الوجوه - عائقا يحول دون هذا كله.. وشيئا فشيئا تتحول القدسية من القرآن الى السنة فتجعل السنة حاكمه على القرآن ومن ثم انتقلت القدسية لفهوم البشر وبقي الكتاب والسنة للتبرك
فالمشكلة المستعصية في اختلاط قداسة النص ببشرية التفسير والاجتهاد لذلك النص وإدراك مرماه حيث عد رأي الشيخ او المتبوع في تفسير نص ما أو فهمه هو الأمر الوحيد والممكن والمحتمل والأكمل لمدلول ذلك النص وصار رأي أو احتمال آخر خروجا عن الإجماع أو نوعا من الابتداع .. إن مناخ التقليد الجماعي جعلنا كذلك عاجزين عن الامتداد ودون سوية التعامل مع القرآن فكذلك اصبحنا دون سوية التعامل مع الواقع المعاصر لأننا أوقفنا عطاء القرآن للزمن وهو المتغير السريع وحاولنا التفاهم معه بفهوم عصر اخر يختلف في طبيعته ومشكلاته وعلاقاته ومعارفه عن عصرنا وأعطينا صفة القدسية والقدرة على الامتداد والخلود لاجتهاد البشر ونزعنا صفة الخلود والامتداد عن القرآن عمليا وإن كنا نرفضها نظريا
فمثلا اخترنا ان نستعمل مفهوم الاعجاز العلمي للقرآن وبدأ الناس بالاستغناء عن اي محاولة للابداع والانجاز العلمي واصبح الكلام عن اعجاز القرآن العلمي نوع من التعويض
وعليه علينا ان نعي ان لكل علم من العلوم الانسانية والتجريبية مناهج والات وتقنيات خاصة لفهمه وادراكه . ولكل منهج خصائصه وشروطه وميزاته ولكل معرفة وسيلتها التي توصل اليها .. إن منهج علماء الاصول على دقته وعبقريته في استنباط الحكم التشريعي من آيات الاحكام لا يمكن ان يعتمد ليكون وسيلة علماء التاريخ والاجتماع والسياسه…الخ

على العكس ممكن لهذا المنهج ان يكون مفسدا للنتائج والحقائق لو استعمل في غير ميدانه الذي وضع له على الرغم من بعض التلاقي والادوات المشتركة أحيانا في ميدان العلوم المتجانسة .. فالمطروح وبإلحاح : كيف يمكن التعامل مع القرآن وتدبر آياته والإفادة من معطيات العلوم وآلات فهمها ليكون القرآن مصدر المعرفة وفلسفتها في شعاب العلوم الاجتماعية جميعا ؟ حيث لا بد لنا من العودة للقرآن كمصدر لمعارف الحياة وفقه المعرفة والحضارة للقيام بدورنا بمسؤولية الشهادة على الناس والقيادة لهم وإلحاق الرحمة بهم واستئناف السير الذي توقف من عهد بعيد في كثير من شعب المعرفه التي يمنحها القرآن