Saturday, July 16, 2016

الليث بن سعد.. فقيه مصر

“صلاح بلدنا بإجراء النيل وإصلاح أميرها، ومن رأس العين يأتى الكدر، فإذا صفا رأس العين صفت السواقي” بنفاذ البصر والبصيرة قال الليث بن سعد هذه الكلمات لهارون الرشيد عندما سأله عن صلاح مصر، فكما كان لمصر نصيب  كبير من الثوريين والمجددين المفكرين والصوفيين، برز لها أيضا في الفقه الليث بن سعد الذي قال عنه الإمام الشافعي: “الليث أفقه من مالك، إلا أن أصحابه لم يقوموا به” وقال عنه الحافظ أبو نعيم: “كان الليث فقيه مصر ومحدثها ومحتشمها ورئيسها ومن يفتخر بوجوده الإقليم، بحيث أن متولي مصر وقاضيها وناظرها من تحت أوامره يرجعون إلي رأيه ومشورته، وقد أراده المنصور أن ينوب عنه على الإقليم فاستعفى من ذلك”
مولده ونشأته. 94هـ/175هـ
هو أبو الحارث الإمام الفقيه الحافظ الحجة، شيخ الإسلام في مصر الليث بن سعد بن عبد الرحمن بن عقبة الفهمي، جاء مولده بمحافظة القليوبية في قرية تسمى قرقشندة عام 94هـ، كان الإمام الليث مولى لآل مسافر بن خالد بن ثابت بن ظاعن الفهمي من قبيلة فهم القيسية المضرية التي انتسب لها فقيهنا، وكان أبوه من موالي قبيلة قريش قبل أن يصير مولى لقبيلة فهم، قيل إن أصوله فارسية فإن جده من أصبهان ولكنه أتى مصر مع جيش عمرو بن العاص، وعلى كل حال ولد الليث بمصر وتلقى العلم على يد كبار الفقهاء والمحدثين فيها ومنهم يزيد بن أبي حبيب وعمرو بن الحارث، هذا غير ما جمعه من علماء خارج مصر، وأنه فكر عندما سمع بعلم ابن شهاب الزهري بالذهاب إليه ولكنه امتنع مخافة ألا يكون ذلك لله.
مكانته وعلمه.
كان الليث بن سعد يجنح كثيرا في فقهه إلى تقويم الأخلاق والسمو بها وبالإنسان إلى مراتب عظمى، مما حمل الشيخ مصطفى عبد الرازق على قوله: “إن الذى نهض به الليث من توجيه الحركة الفقهية فى عصره إلى الناحية الخلقية الروحية، كان من حقه أن يجعل الليث معدودا فى أئمة الصوفية الذين نهضوا بالتصوف نهضته الأولى، ونهضة التصوف الأولى كانت أخلاقية”، ويتفق عبدالرازق فى هذا الاعتقاد مع الأصبهانى صاحب “حلة الأولياء” الذى عد الليث من أهل التصوف الأول قائلا “إنه كان يعلم الأحكام مليا ويبذل الأموال سخيا”
وقال عنه عبد الملك بن يحيى بن بكير عن أبيه قال: “ما رأيت أحدا أكمل من الليث” فاتفق هذا القول مع ما قاله عثمان بن صالح: “كان أهل مصر ينتقصون علما حتى نشأ فيهم الليث”
ومن الملاحظ في عهد المهدي العباسي أن الليث كان له أربعة مجالس أولهم مع السلطان ينظر في نوائبه وحوائجه وإذا رأى مكروها في أمر السلطان أو الخليفة أرسل لأمير المؤمنين فعزله، المجلس الثاني الحديث النبوي ومن طلبه من طلاب العلم يقرأه عليهم فيحفظونه عنه بالسند الصحيح، المجلس الثالث لمن أراد فتوى أو استفسار عن مسألة بعينها، والرابع لحوائج الناس فلم يرد أحدا قط، هكذا كان يمر يوم الليث بن سعد ما بين علم وجود.
كان فقيها معتدلا لا يعرف التشدد ولا الرياء، وتذكر المصادر أنه كان ثريا، وكان يحب الطيب والتنزه في الحدائق والمتنزهات، كان لا يعرف الإسراف ولا الإمساك، ويحكى أن الإمام مالك كتب له يوما معاتبا “بلغنى أنك تأكل الرقاق وتلبس الرقاق “أى الثياب الراقية الفاخرة” وتمشى فى الأسواق”، فكتب إليه الليث: “قال الله تعالى: “قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ”، ومن ثم اقتنع مالك بوجهة نظر الليث فسار على نهجه حينما فتح الله عليه أبواب رزقه، فنال من زينتها ما جعل أتباعه يستفسرون عنها فيقول لهم “إن الله يحب أن يرى نعمته على عبده”
مواقفه وكرمه.
لا يذكر الليث ابن سعد إلا وذكر كرمه وحسن خلقه، كان رضي الله عنه لا يرى سعادة في وجود تعساء فكان يجود بجنون غير أنه كان يحسن الصنع فيما وهب الله من أرض خصبة، حتى قيل إنها كانت تدر عليه أكثر من عشرين ألف دينار، ومن ثم كان إذا سأل أعطى عطاء من لا يخشى الفقر، وتذكر السير أن امرأة طلبت منه رطلا من عسل لتعالج ابنها، فى وقت شح فيه العسل، فأمر كاتبه أن يعطيها مرطا من عسل “والمرط نحو مائة وعشرين رطلا” فقال كاتبه: “سألتك رطلا أتعطيها مرطا؟” فقال الليث: “سألتنا على قدرها ونحن نعطيها على قدرنا” هذا غير خراج أرضه التي كانت قرب بورسعيد فيذكر أنه ما أدخل خراجها بيته أبدا، بل يجلس أمام البيت ويعطي ما شاء الله له أن يعطي.
أما عن الفتوى فقد عانى كثير حتي يصل لكرسي الإفتاء، وكان سبب عنائه وحرمانه أنه ليس عربيا، ولكن في نهاية الأمر آلت إليه الفتوى وذلك بعد أن فاقت شهرته الآفاق، ووصل علمه ذروته، حتى قيل إن ربيعة الرأي معلم الإمام مالك لم يكن يخشى من مناظرة أحد قط إلا الإمام الليث، ومن هنا وفي عهد أبي جعفر المنصور عُرضت ولاية مصر على الليث بن سعد، ولكنه رفضها متعللا بأنه لا يصلح للولاية، مما مكن مكانته لدي الخليفة الذي يأمر كل والٍ أو قاضٍ يذهب إلى مصر بأن يستشير الليث في أموره ويحسن مثواه.
وفي يوم الجمعة للنصف من شعبان عام 175هـ رحل سراج مصر المنير، فقال خالد الصدفي: شهدت جنازة الليث فما شهدت جنازة أعظم منها.
بقلم محمد احمد القشلان

No comments:

Post a Comment