مهمة
جمع الأحاديت النبوية و ضبط أسانيدها فى
وقت الإمام البخارى ، أعنى فى نهايات
القرن الثانى الهجرى و فى غمرة الدسّ
الكثير الذى حدث مع شيوع الإسرائيليات
وحكايات القصّاصين و مجالس السمر و نسبة
الكلام إلى غير قائلة ( حيث
كان كثيرون يرتزقون من هذه الحرفة )
فهى لم تكن مهمةٌ
سهلة ، و لم يكن شخصٌ واحدٌ ليستطيع القيام
بها مهما كان من علوّ همَّته و مثابرته
على البحث و التدقيق . و
لذلك ، فقد عاصر البخارى و سبقه كثيرون
من العلماء الذين أفنوا أعمارهم فى هذه
المهمة ، فمنهم من اكتفى بالتدريس و
الإسناد لسامعيه من دون أن يُحرّر كُتباً
( عملاً ،
فيما يبدو ، بالحديث النبوى : لا
تكتبوا عنى غير القرآن ) و
منهم من وجد الحل فى التدوين ، مثل إسحاق
بن راهويه الذى كان يصرّح برجائه فى أن
تُجمع صحاح الأحايث فى كتابٍ جامع ، و هو
الأمر الذى حدا بالإمام البخارى لوضع
كتابه المشهور بصحيح البخارى (
عنوانه الفعلى :
جامع الصحيح )
و منهم علماء اهتموا
بتدوين الصحاح و المستدركات عليها ، مثل
الإمام مسلم ، المتوفى بعد الإمام البخارى
بخمس سنوات عام 261 هجرية
، و هو صاحب الكتاب المشهور بصحيح مسلم (
و عنوانه الفعلى ،
أيضاً : جامع
الصحيح ) و
معاصرهما الإمام ابن حنبل صاحب المذهب
الفقهى المعروف ، المتوفى 241 هجرية
، و هو الذى اهتم بضبط الحديث النبوى لضبط
الأحكام الفقهية ، و وضع فى صحاح الأحاديث
كتابه : المسند
. و منهم
الإمام الحاكم ، صاحب كتاب "المستدرك
على البخارى و مسلم" ،
المتوفى فى زمنٍ قريبٍ منهما ، سنة 341
هجرية . . و
غيرهم .
هى
إذن ، حركةُ كبيرة قام بها أجلّاء من
العلماء المخلصين ، لتخليص العقل العربى
و الإسلامى من ركام هائل الأقاويل "غير
الصحيحة" التى
نُسبت للنبى ، و ما كان بإمكان شخصٌ واحدٌ
القيام بمهمة هائلة كهذه . . و
من بعد هؤلاء ، جاء علماء آخرون نظروا فى
محتوى الأحاديث النبوية و طبيعتها ، كان
منهم فى القرن السابع الهجرى العلّامة
ابن الصلاح صاحب الكتاب المشهور بعنوان
" مقدمة
ابن الصلاح " و
قد رأيتُ مخطوطةً منه بخطّ مؤلفها ، مكتوب
عليها العنوان كالتالى : كتاب
معرفة أنواع علم الحديث . و
كانت وفاته ابن الصلاح سنة 643
هجرية ، و بعد ذلك
بقليل كانت وفاة ابن النفيس سنة 687
الذى وضع كتاباً
بعنوان : أصول
علم الحديث النبوى . و
قد اتفق كلاهما فى كتابيهما ، على أن
الحديث مهما بلغ من علوّ الإسناد و صحة
التسلسل ، فإنه لا يصل إلى درجة اليقين
به . . و هو
ما يُضعف العمل به .
و
على ما سبق ، لا يجوز توجيه اللوم (
أو شتائم الجهلاء
) للإمام
البخارى الذى خطا مع أقرانه خطوةً مهمة
على طريق تحرير العقل من فوضى النصوص و
نسبة القدسية إلى ما هو غير مقدّس من
العبارات . ثم
خطا اللاحقون عليهم خطوةً تالية فى نقد
محتوى الأحاديث ، و كان إجماع رأيهم هو
عدم الالتفات للحديث المتعارض مع القرآن
، و مع حديث آخر ، و مع العقل .
و
أما زعم القائل إن البخارى و مسلم لم يُطبع
كتابيهما إلا منذ مائتى عام ، و كانا قبل
ذلك غير معروفينِ ! و
إنه "يتحدى
أن تكون هناك مخطوطتين للكتابين"
حسبما قال فى برنامج
تلفزيونى ! فهذا
زعمٌ كفيل بإطلاق ضحكات السخرية من فم أى
مشتغل بالتراث و المخطوطات . . و
خشية أن يستقر هذا الزعم الباطل فى أذهان
الناس ، أقول إننى رأيتُ فى الخزانات
الخطية بأنحاء العالم و عواصمه ، ما لا
حصر له من مخطوطات الكتابين . و
بعضها مخطوطات ألفية ( أتمت
من عمرها ألف عام من الزمان ) و
قد قدمتُ صوراً لبعضها فى كتابى الذى صدر
قبل أعوامٍ بعنوان : المخطوطات
الألفية .
كيف
يُقال إن كتابىْ البخارى و مسلم ، كانا
غير معروفينِ قبل مائتى سنة ! و
ماذا عن شروحهما الكثيرة ! ألا
تدل هذه الشروح و الحواشى عليها ، على
اهتمام العلماء قبل هذه "المائتى
عام" بالكتابين
. . و أين
سنضع " فتح
البارى بشرح صحيح البخارى "
الذى أقيم بالقاهرة
احتفال عالمى ، يوم انتهى منه مؤلفه الإمام
ابن حجر سنة 842 ،
و أقيم الاحتفال خارج سور المدينة ، و
حضره السلطان المملوكى ، و جاءته وفود من
شتى بقاع العالم الإسلامى ( يقول
المقريزى : و
كانت تكلفة الذبائح "لإطعام
الضيوف" يومها
، خمسمائة دينار ) . . و
ماذا عن عشرات الشروح و الحواشى ، التى
كتبها علماء الحديث طيلة الألف سنة الماضية
!
و
أخيراً ، فعندما كان الناس يشتغلون بالعلم
و يحترمون أنفسهم و سامعيهم و سابقيهم ،
لم يظهر بينهم من توافه الناس من يُفجّر
المفاجئات البائسة التى من نوع "إرضاع
الكبير ، شرب بول الرسول ، سقوط الذبابة
فى الشراب ، جئتكم بالذبح . . "
و غير ذلك من السخائف
المعاصرة التى كان الأقدمون يعرفون أن
ورودها فى كتاب لا يعنى بالضرورة أنها
يقينية ، و أن جهد جامعى الصحاح كان يتوقف
على ضبط السند ، و أن المتن ( نص
الحديث ) له
قواعد و أصول تتجاوز التسكع عند غرائب
الأخبار النبوية ، و الصراخ بسببها فى
قنوات التلفزيون لجذب أنظار الناس ، لجذب
الإعلانات إلى البرامج "الساخنة"
و بالأحرى :
البائسة .
No comments:
Post a Comment